السبت، 14 نوفمبر 2015

سيرة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام

سيرة الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام

تمهيد
يعتبر عهد الإمامين الباقر والصادق عليه السلام عهد الانفراج الفكري لمدرسة أهل البيتعليهم السلام طبعاً قياساً للعهود السابقة التي مرت بها الأمة الإسلامية وأسباب هذا الانفراج كثيرة أهمها ضعف وانهيار الحكم الأموي سنة 132هـ. وبداية ضعيفة لدولة بني العباس. ومن الطبيعي أن ينشغل الحكام عن رموز أهل البيت عليهم السلام . لذلك كان الإمام عليه السلام بعيداً عن المواجهة السياسية العلنية. ولذا سمُي هذا العصر بعصر انتشار علوم ال محمد صلى الله عليه وآله .

"وكان فضلاء الشيعة ورواتهم في تلك السنيين امنين على أنفسهم مطمئنيين متجاهرين بولاء أهل البيت عليهم السلام معروفين بذلك بين الناس، ولم يكن للأئمة عليهم السلام مزاحم لنشر الأحكام، فكان يحضر شيعتهم مجالسهم العامة والخاصة للاستفادة من علومهم"1.

وفي عصر الإمام بدء عصر ترجمة الكتب إلى العربية من الديانات والفلسفات المختلفة كاليونانية، والهندية، والفارسية، والعبرية، و...، ونشأ العديد من التيارات والمذاهب، وقد تصدى عليه السلام لذلك كله.

قال بعض المحققين:"أما مناقبه وصفاته فتكاد تفوق عدد الحاصر ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر، حتى إن من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى صارت الأحكام التي لا تدرك عللها والعلوم التي تقصر الأفهام عن الإحاطة بحكمها تضاف إليه وتروى عنه"2.

قال كمال الدين محمد بن طلحة: "هو أي الإمام الصادق عليه السلام من عظماء أهل البيت عليهم السلام وساداتهم عليهم السلام ذو علوم جمة وعبادة موفورة وأوراده متواصلة وزهادة بينة وتلاوة كثيرة يتتبع معاني القران الكريم ويستخرج من بحره جواهره ويستنتج عجائبه ويقسم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليها نفسه رؤيته تذكر بالاخرة واستماع كلامه يزهد في الدنيا والاقتداء بهداه يورث الجنة نور قسماته شاهد أنه من سلالة النبوة وطهارة أفعاله تصدع بأنه من ذرية الرسالة نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمة وأعلامهم مثل: يحيى بن سعيد الأنصاري وابن جريح ومالك بن أسد والثوري وابن عيينة وأبي حنيفة وأيوب وغيرهم وعدوا أخذهم منه منقبة شرفوا بها وفضيلة اكتسبوها"3.

إذن قد شهد القاصي والداني والمؤالف والمخالف أن الإمام صاحب المقام العلمي الرفيع الذي لا ينازعه أحد. حتى توافدت كلمات الثناء والاكبار والاعجاب عليه من قبل الحكام، وأئمة المذاهب، والمؤرخين وأصحاب السير...، وقد أجمع العلماء مثل: المفيد، والطبرسي، والفتال النيسابوري، والشهيد الثاني، وابن شهر اشوب، وغيرهم أنه نقل عن الإمام من الروايات ما لم ينقل عن أحد غيره.

الحالة السياسية وثورة زيد
زيد بن علي عليه السلام أحد الثوار الكبار في عصره وهو عم الإمام الصادق عليه السلام ، وحينما صمّم على الثورة جاء إليه جابر بن يزيد الجعفي يسأله عن سبب تصميمه على الثورة ويخبره بأنه لو خرج يُقتل.

فقال زيد لجابر:"يا جابر لم يسعنِ أن أسكت وقد خولف كتاب اللَّه وتحوكم بالجبت والطاغوت، وذلك أني شاهدت هشاماً ورجل عنده يسب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله فقلت للسابّ: ويلك يا كافر أما أني لو تمكنّت منك لاختطفت روحك وعجّلتك إلى النار.
فقال: لي هشام، مَه جليسنا يا زيد.
قال زيد لجابر: فواللَّه لو لم يكن إلا أنا ويحيى ابني لخرجت عليه وجاهدته حتى أفنى"4.

ومن هنا فجر زيد ثورته المباركة وبعد شهادته أمر هشام بصلب جثمانه الطاهر على باب دمشق ثم أرسل جثمانه إلى المدينة فنصب عند قبر النبي صلى الله عليه وآله في سنة 121ه.

أما موقف الإمام عليه السلام من عمه زيد فكان الإمام عليه السلام في مواقف عديدة يتبنى الدفاع عن عمه ويترحم عليه ويوضح منطلقاته وأهدافه ويرسخّ في النفوس مفهوماً إسلامياً عن ثورته حيث يعتبر هذه الثورة جزء من حركته المباركة.

عن الفضيل بن يسار حيث يقول: ذهبت إلى المدينة بعد قتل زيد لألتقي بالإمام الصادق عليه السلام وأخبره بنتائج الثورة، وبعد أن التقيته وسمع منيّ ما دار في المعركة قال عليه السلام :

يا فضيل شهدت مع عمي قتال أهل الشام؟
قلت: نعم.
قال عليه السلام : كم قتلت منهم؟
قلت: ستة.
وقال عليه السلام : فلعلّك شاكٌ في دمائهم؟
قال: فقلت: لو كنت شاكاً ما قتلتهم.
ثم قال: سمعته وهو يقول:"أشركني اللَّه في تلك الدماء. مضى واللَّه زيد عمي وأصحابه شهداء، مثل ما مضى عليه علي بن أبي طالب وأصحابه"5.

كيفية مواجهة الإمام عليه السلام للتيارات المنحرفة
إن من أبرز المشاكل التي واجهت أهل البيت عليهم السلام ظاهرة الغلو التي تشكلت كتيارات ومذاهب بشكل قوي في زمن الإمام الصادق عليه السلام وإن كانت طلائعها ظهرت قبل ذلك بكثير في زمن أمير المؤمنين عليه السلام ، فما المقصود من الغلو؟

معنى الغلو:
الغلو في اللغة هو تجاوز الحد، وكان يطلق كاصطلاح على الاشخاص الذين تجاوزوا الحد في الأئمة عليهم السلام فرفعوهم عن البشرية ونسبوهم للألوهية.

ظهور الغلو:
كما قلنا فإن ظاهرة الغلو بدأت في زمن أمير المؤمنين عليه السلام ، وهناك عدة أحداث تاريخية تنقل في ذلك، من هذه الأحداث:"مر علي عليه السلام بقوم يأكلون في شهر رمضان نهاراً، فقال لهم: أسفر أم مرضى؟ قالوا: لا ولا واحدة. فقال: فمن أهل الكتاب أنتم تعصمكم الذمة والجزية؟ قالوا: لا.

قال: فما بال الأكل في شهر رمضان؟ فقاموا إليه وقالوا: أنت أنت(يومئون إلى الربوبية). فنزلعليهم السلام عن فرسه فألصق خده في الأرض، وقال: ويلكم إنما أنا عبد الله وأخو رسوله فاتقوا الله وارجعوا إلى الإسلام، فأبوا، فدعاهم إلى الإسلام مراراً فأقاموا على كفرهم، فنهض إليهم وقال: شدوهم وثاقاً وعليّ بالفعلة والنار والحطب، ثم أمر بحفر بئرين فحفرتا، إحداهم سرباً والأخرى مكشوفة وألقى الحطب في المكشوفة وفتح بينهما فتحاً وألقى النار في الحب فدخن عليهم وجعل يهتف بهم ويناشدهم ليرجعوا إلى الإسلام فأبوا، فأمر بالحطب والنار فألقي عليهم فأحرقوا".

ولكن الغلو لم يتوقف وينتهي بل ظل يظهر بين مناسبة وأخرى، حتى صار فرقاً عديدةً في زمن الإمام الصادق عليه السلام .

أهداف المغالين واساليبهم
هناك رواية للإمام الصادق عليه السلام يبين فيها أهداف المغالين وأساليبهم، يقول عليه السلام :"إن الناس قد أولعوا بالكذب علينا وإني أحدث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتى يتأوله على غير وجهه، وذلك أنهم كانوا لا يطلبون بأحاديثنا ما عند الله وإنما يطلبون الدنيا، وكلٌ يحب أن يكون رئيساً".

ففي هذه الرواية يذكر الإمام الصادق عليه السلام الأهداف الحقيقية لرؤساء المغالين:"إنما يطلبون الدنيا وكلٌ يحب أن يكون رئيساً".فكانوا يطلقون العنان لغلوهم لاستقطاب سفهاء الناس وبسطائهم ليترأسوا عليهم ويحصلوا على جاه وأتباع.

وأما وسائلهم فقد:

أولاً:"أولعوا بالكذب علينا".
أي أنهم كان يؤلفون الروايات التي تتضمن الغلو وينسبونها للإمام كذباً وزوراً ومن هؤلاء المغيرة بن سعيد يقول الإمام الصادق عليه السلام :"إن المغيرة بن سعيد دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها".

وثانياً:"إني أحدث أحدهم بالحديث فلا يخرج من عندي حتى يتأوله على غير وجهه".
أي أنهم يأخذون الحديث الذي قاله الإمام ولكنهم يزورون معنى الحديث ومقصود الإمام عليه السلام ، وهناك العديد من النماذج كالرواية التي يسأل فيها أحدهم الإمام عليه السلام : يا ابن رسول الله، قد بلغنا عنك أنك قلت: إذا عرفتم فاعملوا ما شئتم.

فقال عليه السلام :"إني قلت فاعملوا من الطاعات ما شئتم فإنه يقبل منكم".

كيف واجههم الإمام الصادق عليه السلام
لقد واجه الإمام عليه السلام حركة الغلو بكل قوة وبكل الوسائل المتاحة، ومن الطرق التي اتبعها:

1 - البراءة منهم:
كان الإمام يتبرأ في كل مناسبة من المغالين ومن رؤسائهم ويذكر بالإسم ويؤكد على لعنهم والبراءة منهم، راداً بذلك كل ادعاءاتهم الكاذبة التي يصورون بها ارتباطهم بالإمام عليه السلام ، ومن ذلك قوله عليه السلام في حقهم عندما سأله سدير الصيرفي عنهم:"يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء، برء الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ودين ابائي، والله لا يجمعني وإياهم يوم إلا وهو عليهم ساخط".

وهكذا كان موقفه عليه السلام من بشار الشعيري الذي أظهر الغلو في علي عليه السلام وكان يسكن الكوفة، حيث قال الإمام الصادق عليه السلام لمرازم بن حكيم:"يا مرازم إن اليهود قالوا ووحدوا الله وإن النصارى قالوا ووحدوا الله وإن بشاراً قال قولا عظيما فإذا قدمت الكوفة فأته وقل له يقول لك جعفر بن محمد: يا فاسق يا كافر يا مشرك، أنا بري‏ء منك".

2- خطورتهم وضرورة عزلهم:
عن الإمام الصادق عليه السلام:"والله ما الناصب لنا حرباً بأشد علينا مؤونة من الناطق علينا بما نكره وبما لم نقله في أنفسنا".
وهناك العديد من الروايات التي يظهر فيها الإمام عليه السلام مقدار الأذى الذي تعرض له من أهل الغلو ونسبته للإلوهية!

وأكد الإمام عليه السلام على الشيعة ضرورة عزل المغالين، فعن المفضل بن يزيد يقول: قال لي أبو عبد الله الصادق عليه السلام وقد ذكر أصحاب أبي الخطاب والغلاة:"يا مفضل لا تقاعدوهم ولا تواكلوهم ولا تصافحوهم ولا توارثوهم"

وعنه عليه السلام :"احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدونهم فإن الغلاة شر خلق الله، يصغّرون عظمة الله ويدّعون الربوبية لعباد الله، والله إن الغلاة شر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا".

3 - وضع الموازين الشرعية التي تمنع من الغلو:
لقد وضع الإمام الصادق عليه السلام الموازين التي من خلالها يمكن للمؤمن أن يميز الأفكار الصحيحة عن غيرها، يقول عليه السلام :"اللهم إني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا".

فعلينا أن لا نتجاوز الأئمة عليهم السلام وننسب لهم ما لم يقولوه في أنفسهم، ثم يجب تمييز الروايات الصحيحة من الموضوعة والتفسير الصحيح من الزائف، يقول عليه السلام :"ما أتاكم عنا من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو باطل".فيجب عرض الاحاديث على القران الكريم، فكل ما خالف كتاب الله فهو باطل.

الخلاصة
1 - في عهد الإمام الصادق عليه السلام انهار الحكم الأموي سنة 231 ه وانتقل إلى بني العباس، وقد استفاد الإمام عليه السلام من هذه الظروف لنشر الثقافة الإسلامية الصحيحة.
2 - قام زيد بن علي بثورته التي استشهد على أثرها، وكان الإمام عليه السلام مؤيداً لزيد و ثورته.
3 - ظهر الغلو كتيار بارز له أتباعه، وكان هدف زعمائهم طلب الدنيا والرئاسة، وكانوا يكذبون على لسان الأئمة عليهم السلام فيضعون أحاديث غير صحيحة أو يحرفون الروايات عن معناها الصحيح.
4 - واجه الإمام عليه السلام المغالين بالبراءة منهم وإظهار خطورتهم وضرورة عزلهم عن المؤمنين ووضع الموازين الشرعية التي تمنع من الوقوع في الغلو.

*محطات من سيرة اهل البيت, سلسلة الدروس الثقافية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

1- الطهراني، اقابورك، الذريعة، ج2، ص132.
2- الأربلي، أبو الفتح، كشف الغمة، ج2، ص368.
3- م.ن، ص368.
4- القرشي، باقر شريف، حياة الإمام محمد الباقر، ج1، ص72.
5- أمالي الصدوق، ج13، ص275.

الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام


الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام

الولادة: ولد يوم الاثنين في السابع عشر من شهر ربيع الأول في المدينة المنورة سنة 83ه.

الشهادة: استشهد في شهر شوال سنة 148ه بالعنب المسموم الذي أطعمه به المنصور ولم يعين اليوم، وقيل الخامس والعشرين منه، وهو ابن خمسة وستين سنة، مقامه مع جده اثنتي عشرة سنة، ومع أبيه تسع عشرة سنة.

مدة الإمامة: أربعاً وثلاثين سنة.

ألقابه: الفاضل، الطاهر، الصادق.

كنيته: أبو عبد اللَّه وأبو إسماعيل.

نقش خاتمه: (اللَّه خالق كل شي‏ء)، (رب يسر لي أنت ثقتي، فقني شر خلقك)، (اللَّه ولي وهو عصمتي من خلقه)، (ما شاء اللَّه لا قوة إلا باللَّه استغفر اللَّه)

لمحة عن حياة الامام الصادق عليه السلام

لمحة عن حياة الامام الصادق عليه السلام

هو الإمام جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام, سادس أئمّة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

ولادته وشهادته:
ولد عليه السلام في المدينة المنوّرة في السابع عشر من شهر ربيع الأوّل سنة 83 للهجرة1 , في اليوم الذي ولد فيه جدّه النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

وقبض في المدينة أيضاً في شهر شوال2 سنة 148 للهجرة3 , وقيل في النصف من رجب 4, شهيداً مسموماً5 , ودفن في البقيع إلى جنب أبيه وجدّه وعمّه الإمام الحسن عليهم السلام.

أمّا كنيته: فأبو عبد الله, ويكنّى أيضاً بأبي إسماعيل, وأبي موسى.

وأمّا ألقابه: فالصادق, والفاضل, والطاهر, والقائم, والكافل, والمنجي6 .وكان من أهل العلم الذين سمعوا منه, إذا رووا عنه قالوا: أخبرنا العالم7 . وأشهر ألقابه الصادق, سمّاه به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

فعن ابن حمزة ثابت بن دينار الثماليّ عن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جدّه عليهم السلام قال: "قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: إذا ولد ابني جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فسمّوه الصادق، فإنّه سيكون في ولده سمي له يدّعي الإمامة بغير حقّها ويسمّى كذّاباً"8 .

فلا يعبأ بما ورد من أنّ المنصور الدوانيقيّ هو الذي أضفى عليه هذا اللقب9 .

والدته المكرمة:
والدته الماجدة الجليلة المكرّمة فاطمة, المكنّاة بأمّ فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر, وأمّها أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر.
يقول الإمام الصادق عليه السلام في حقّها: "كانت أمّي ممّن آمنت واتّقت وأحسنت والله يحبّ المحسنين".

وقد كانت من أتقى نساء زمانها, وروت عن عليّ بن الحسين عليهما السلام أحاديث, منها قوله لها: "يا أمّ فروة إنّي لأدعو الله لمذنبي شيعتنا في اليوم والليلة ألف مرّة ، لأنّا نحن فيما ينوبنا من الرزايا نصبر على ما نعلم من الثواب وهم يصبرون على ما لا يعلمون"10 .
وعن معروف بن خربوذ- أحد أصحاب الصادق عليه السلام- في حديث له يقول: أخبرني ابن المكرّمة- يعني أبا عبد الله11 عليه السلام .

مع أبيه الباقر عليه السلام:
عن أبي الصبّاح الكنانيّ قال: نظر أبو جعفر عليه السلام إلى أبي عبد الله عليه السلام يمشي فقال: "ترى هذا؟ هذا من الذين قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾12 .

وعن سدير الصيرفيّ قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: "إنّ من سعادة الرجل أن يكون له الولد، يعرف فيه شبه خَلقه وخُلُقه وشمائله، وإنّي لأعرف من ابني هذا شبه خَلقي وخُلُقي وشمائلي، يعني أبا عبد الله عليه السلام"13 .
وعن رجل يقال له طاهر قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام فأقبل جعفر عليه السلام فقال أبو جعفر عليه السلام: "هذا خير البريّة أو أخير"14 .

فضائله ومناقبه وبعض أحواله
وفضائله صلوات الله عليه أكثر من أن تحصى وتذكر وفوق أن تعدّ وتحصر:
فعن جوده وكرمه وإنفاقه قالوا: كان جعفر بن محمّد يطعم حتّى لا يبقى لعياله شيء15 .
وعن هشام بن سالم قال: كان أبو عبد الله عليه السلام إذا أعتمَ16 وذهب من الليل شطره أخذ جراباً فيه خبز ولحم والدراهم فحمله على عنقه ثمّ ذهب به إلى أهل الحاجة من أهل المدينة فقسّمه فيهم ولا يعرفونه فلمّا مضى أبو عبد الله عليه السلام فقدوا ذا فعلموا أنّه كان أبا عبد الله عليه السلام17 .
وروي عنه عليه السلام أنه قال: "المعروف ابتداء, وأمّا من أعطيته بعد المسألة فإنّما كافيته بما بذل لك من وجهه, يبيت ليلته أرقاً متململاً, يمثل بين الرجاء واليأس لا يدري أين يتوجّه لحاجته، ثمّ يعزم بالقصد لها فيأتيك وقلبه يرجف, وفرائصه ترعد, قد ترى دمه في وجهه, لا يدري أيرجع بكآبة أم بفرح"18 .

وكان عليه السلام يتصدّق بالسكّر، فقيل له: أتتصدّق بالسكّر؟ فقال: "نعم إنّه ليس شيء أحبّ إليّ منه, فأنا أحبّ أن أتصدّق بأحبّ الأشياء إليّ"19 .
وعن أبي الربيع قال: دعا أبو عبد الله عليه السلام بطعام فأُوتي بهريسة فقال لنا: "ادنوا فكلوا"، قال: فأقبل القوم يقصرون, فقال عليه السلام: "كلوا فإنّما يستبين مودّة الرجل لأخيه في أكله (عنده)", قال: فأقبلنا نغصّ أنفسنا كما تغصّ الإبل20 .

وكان عليه السلام يربّي عبيده وغلمانه ويعاملهم باللطف والرحمة:
فقد روي أنّه عليه السلام بعث غلاماً له في حاجة فأبطأ، فخرج أبو عبد الله عليه السلام على أثره لمّا أبطأ، فوجده نائماً، فجلس عند رأسه يروّحه حتّى انتبه، فلمّا تنبّه قال له أبو عبد الله عليه السلام: "يا فلان والله ما ذلك لك، تنام الليل والنهار، لك الليل ولنا منك النهار"21 .

وإذا أعتقهم كان لا يريد منهم جزاءً ولا شكوراً سوى الطاعة لله ولرسوله ولأوليائه عليهم السلام, فعن إبراهيم بن أبي البلاد قال: قرأت عتق أبي عبد الله عليه السلام فإذا هو شرحه: "هذا ما أعتق جعفر بن محمّد أعتق فلاناً غلامه لوجه الله لا يريد به جزاءً ولا شكوراً على أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويحجّ البيت ويصوم شهر رمضان ويتولّى أولياء الله ويتبرّأ من أعداء الله، شهد فلان وفلان وفلان, ثلاثة"22 .

وكان يكرم الضيف ويحسن قراه ويكره استخدامه, فعن ابن أبي يعفور قال: رأيت عند أبي عبد الله عليه السلام ضيفاً فقام يوماً في بعض الحوائج فنهاه عن ذلك, وقام بنفسه إلى تلك الحاجة وقال عليه السلام: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يستخدم الضيف"23.

وكان يكدّ على رزقه ويعمل بيده, فعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إنّي لأعمل في بعض ضياعي حتّى أعرق وإن لي من يكفيني ليعلم الله عزَّ وجلَّ أَنِّي أطلب الرزق الحلال".

وعن أبي عمرو الشيباني قال: رأيت أبا عبد الله عليه السلام وبيده مسحاة وعليه إزار غليظ يعمل في حائط له والعرق يتصابّ عن ظهره فقلت: جعلت فداك أعطني أكفك، فقال لي: "إنّي أحبّ أن يتأذّى الرجل بحرّ الشمس في طلب المعيشة"24 .

ومن دعائه لبعض أصحابه أنّه كان عليه السلام- يوماً- تحت الميزاب ومعه جماعة إذ جاءه شيخ فسلّم، ثمّ قال: يا ابن رسول الله: إنّي لأحبّكم أهل البيت، وأبرأ من عدوّكم، وإنّي بليت ببلاء شديد وقد أتيت البيت متعوّذاً به ممّا أجد، ثمّ بكى وأكبّ على أبي عبد الله عليه السلام يقبّل رأسه ورجليه، وجعل أبو عبد الله عليه السلام يتنحّى عنه، فرحمه وبكى ثمّ قال: "هذا أخوكم وقد أتاكم متعوّذاً بكم، فارفعوا أيديكم", فرفع أبو عبد الله عليه السلام يديه ورفعنا أيدينا ثمّ قال: "أللهمّ إنّك خلقت هذه النفس من طينة أخلصتها وجعلت منها أولياءك، وأولياء أوليائك، وإن شئت أن تنحّي عنها الآفات فعلت، أللهمّ وقد تعوّذنا ببيتك الحرام الذي يأمن به كلّ شيء، وقد تعوّذ بنا، وأنا أسألك يا من احتجب بنوره عن خلقه أسألك بمحمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين, يا غاية كلّ محزون وملهوف ومكروب ومضطرّ مبتلى, أن تؤمنه بأماننا ممّا يجد، وأن تمحو من طينته ما قدّر عليها من البلاء وأن تفرّج كربته يا أرحم الراحمين", فلمّا فرغ من الدعاء انطلق الرجل فلمّا بلغ باب المسجد رجع وبكى, ثمّ قال: ألله أعلم حيث يجعل رسالته، والله ما بلغت باب المسجد وبي ممّا أجد قليل ولا كثير، ثمّ ولّى25 .

وأمّا صلاته وحضوره بين يدي ربّه فنكتفي بما ورد أنّه عليه السلام كان يتلو القرآن في صلاته، فغشي عليه، فلمّا أفاق سئل ما الذي أوجب ما انتهت حاله إليه؟ فقال- ما معناه-: "ما زلت أكرّر آيات القرآن حتّى بلغت إلى حال كأنّني سمعتها مشافهة ممّن أنزلها"26 .

*صادق العترة, سلسلة مجالس العترة, نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

 1- أنظر: الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 472, ابن مكي العاملي الشيخ شمس الدين محمد المعروف بالشهيد الأوّل: الدروس الشرعية في فقه الإمامية ج 2 ص 12, المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 2 عن الكفعميّ في المصباح, ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 279- 280.
2- والمشهور أنّه في الخامس والعشرين من شوّال, وإن لم يوجد شيء يوثق به يدلّ عليه, قال المحدّث القمّي رحمه الله "ولم يعيّن في الكتب المعتبرة اليوم الذي توفّي فيه من شهر شوّال, نعم قال صاحب جنّات الخلود- المتتبّع الماهر- أنّه توفّي في اليوم الخامس والعشرين من ذلك الشهر" انتهى. (منتهى الآمال ج 2 ص 243).
3- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 180, الطوسيّ: تهذيب الأحكام ج 6 ص 78, ابن مكي العاملي الشيخ شمس الدين محمد المعروف بالشهيد الأوّل: الدروس الشرعية في فقه الإمامية ج 2 ص 12, ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 280, النيسابوريّ: روضة الواعظين ج 1 ص 212.
4- ابن مكي العاملي الشيخ شمس الدين محمد المعروف بالشهيد الأوّل: الدروس الشرعية في فقه الإمامية ج 2 ص 12, النيسابوريّ: روضة الواعظين ج 1 ص 212, ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 280, المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 2 عن الكفعميّ في المصباح.
5- الطبريّ ابن رستم: دلائل الإمامة ص 246, ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 280, عن أبي جعفر القمّي, المجلسيّ: بحار الأنوار 47 ص 2 عن الكفعميّ في المصباح, وص 8 عن الإقبال لابن طاووس في أدعية شهر رمضان: وضاعف العذاب على من شرك في دمه وهو المنصور, ونسبه إلى "قيل" المسعوديّ في مروج الذهب ج 3 ص 313, وكذا ابن الصبّاغ المالكيّ في الفصول المهمّة ج 2 ص 928, إلى غير ذلك.
6- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 281.
7- اليعقوبيّ: تاريخ اليعقوبيّ ج 2 ص 381. وانظر: ابن مكي العاملي الشيخ شمس الدين محمد المعروف بالشهيد الأوّل: الدروس الشرعية في فقه الإمامية ج 2 ص 12.
8- الصدوق: علل الشرائع ج 1 ص 274. وفي بعض الروايات ما يشير إلى توبته, كما في التوقيع الخارج على السفير محمّد بن عثمان العمريّ في جواب أسئلة سألها إسحاق بن يعقوب: "أمّا سبيل عمّي جعفر وولده فسبيل إخوة يوسف عليه السلام" (الصدوق: كمال الدّين وتمام النعمة ص 484). والله العالم.
9- القرشيّ الشيخ باقر: حياة الإمام الصادق عليه السلام ج 1 ص 22- 23.
10- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 472.
11- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشّي ج 2 ص 472.
12- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 306.
13- الكلينيّ: الكافي ج 17 ص 306.
14- المصدر السابق ص 307.
15- الذهبيّ: تاريخ الإسلام ج 9 ص 89.
16- أعتمَ إذا دخل في عتمة الليل وهي ظلمته. 
17- الكلينيّ: الكافي ج 4 ص 8.
18- الكلينيّ: الكافي ج 4 ص 23.
19- المصدر السابق ج 4 ص 61.
20- المصدر السابق ج 6 ص 279.
21- المصدر السابق ج 2 ص 112.
22- الكلينيّ: الكافي ج 6 ص 181.
23- المصدر السابق ج 6 ص 283.
24- المصدر السابق ج 5 ص 76- 77.
25- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 47 ص 122, عن الدعوات للراونديّ.
26- المصدر السابق ج 47 ص 58 عن فلاح السائل.